في كوخ الجدة ما زالت تخفي أشياءها، ولا زالت تحلم بالبحر و الشرائط الملونة ، وما زالت تقطف حبات العنب الحامضة وتتلذذ بحموضتها ، وأشجار التين تذكرها نضوج حباتها بقدوم الخريف وذكرياته ، أشجار تخفي أول حب في حياتها ، تغوص في غياهب الماضي وتحس أن الحياة تضمها بنورها و تزرعها وردا وعبابا وتولد أحلامها الطفولية وتحملها إلى مرافيء البراءة وتخفق لها أشرعتها، تداعبها نسماتها ، شعرت أن طيور الطفولة التي غادرت منزلها بعد مرور السنين يعود لتغرد من جديد في ذاكرتها و تعزف ألحانها على وتر قلبها لتوقظ إحساسا دفينا خبأته منذ نعومة أظافرها ، و الآن تعيش ولادة ثانية وهبتها اللحظة عمرا آخرا ، ومع مرور سنين طويلة كانت متأكدة أنها ستعود يوما إلى شارع الأحلام لتعد الدقائق و الساعات وهي تحمل كل ذكرياتها ، ويجيئها صوته هادئا كطفل صغير نائم، كان الحب في نظر أهل القبيلة خطيئة ، وقتها كانا طفلين يعشقان القمر ويتقابلان على ضوئه وما إن تلمحهم عيون أهل القبيلة يقال عنهما أنهما يغتسلان تحت شلال نوره من خطاياهما ، كان حبهما جريمة في نظر أهل القبيلة ، كبرا ونضجا ، فقررت القبيلة أن يرحل " الشاب " فقال لها يوم الوداع ، ربما يموت شيخ القبيلة غدا وربما سيخلفه ابنه ذلك العاشق الولهان ولابد حينها أن يسمح لي بالرجوع لأنه مثلي احترف لعبة الحب ومارس هواية العشق واحترق باللهب المقدس ، فصول متجمدة حول ربيع ما لبث أن أعلن الشتاء التمرد عليه .
مضت الأيام و الشهور و السنون ولم يمت الشيخ الهرم ، أضحت الحبيبة وحيدة وأمسياتها بدونه فاترة حزينة مثل حمى الصيف ، والوحدة تعرف جيدا كيف تنفرد بمن خانهم الحظ وليالي الصيف تجر أبحاثا في الجراحات المندملة على ذكريات حية ولقد صار لأحزانها لون غير اللون الكلاسيكي ، رفضت أن تكون لغزا أو أحجية تتداولها ألسنة أهل القرية، وعبر الاحتمالات تبحث عن حل يفسرها هي ، لم تفهم نفسها ربما هي مجموعة من التناقضات كما يراها بعض رجال أهل القبيلة جسد واحد وجيل من الأحاسيس المعقدة ، امرأة واحدة ومشاعر متعددة غير مفهومة الكل يقول أنها ليست واقعية رغم أنها لا تؤمن إلا بالواقع لذلك راهنت علي الحب ، كل الأشياء التي راهنت عليها سقطت سقوطا قاسيا ومع ذلك ما زالت تراهن ليل نهار مثل صياد يصطاد السمك النادر في وادي صاف تبدو فيه الحصاة جلية للناظرين ، وحيدة تجالس زهور البرية التي أصابها بعض من جفاف الصيف و ملله ، وضعت رجلاها في ماء النهر ، تأملت سيره البطيء انه المكان الذي اعتادت مجالسة حبيبها .. يأتي خلسة عن أعين أهل القبيلة ، لا تسعها فرحتها قائلة : " صرت مسافرا لا تطيل الإقامة ولا تكاد تفتح حقائبك حتى تغلقها وترحل ثانية " قال : " حياتي لك كتاب مفتوح مكتوب على كل صفحة من صفحاته كلمة عطاء " قالت : " حبك مشاعر راحة " قال : " بل هو جنون تائه يبحث عن مدينة اسمها الأمان " قالت : " وهذا أيضا اعتراف اسمه جنون " ، ثم نظرت إليه معاتبة : كم أنت قاس ! قال : " هل في اشتياقنا استلذاذ بالدموع ؟ منحتك ثقتي وعطفي و اهتمامي لست قاس ، ولكن هم من دمروا ماضينا وأرادوا أن يشطبوا ذاتي و ذاتك في لحظات الأشواق ولهفة اللقاء ، قالت : أحبك فأنت ينابيع تنحدر عبر طيات الزهور وفي صفو الأنهار ، لا أخشى من يوم يصبح فيه الحب خرافة وتعود سفننا منه متعبة إلى شواطئها وتمحى أسماءنا من القبيلة ويلثم النسيان آهاتنا حينها نحتسي عصير الندم وسيهدينا قومنا باقة عذاب لونها انتقام و رائحتها دم وتصير أحلامنا في بحر العذاب مجرد لحظات عابرة مع الزمن وقتها لن أصير زنبقة النوارس البحرية ولن أكون نجمة ولا ملكة أتمرد على الأعراف ، يا له من شعور غريب مقيد بأغلال الماضي ينمو بداخلي كالبركان يرهق جسدي ، يحرق أعصابي ، يؤجج حزني وينمو في صمت ، الرياح يعصف بكبريائي ، ومع الحكايات و الذكريات ترغمني غلى سحب أوراقي دون أن أفهم قواعد اللعبة ، قال وهو يتأملها : " حقا يا له من شعور لم تبق الطفلة التي أداعب خصلات شعرها و نركض سويا وراء أطياف الفراش وأصنع لك تاجا من كل الزهور البرية ، وفي كل مساء أقص عليك حكايات بنات الليل التي تتزين منذ الأزل منتظرات فرسان النور وحكايات الحقول والبساتين المسافرة في الأفق البعيد تداعبها فراشات بثتها أنفاس الربيع لتعلن مواسم الجمال فتتمايل الدنيا طربا بالأهازيج ثملة بالمحاسن فكان حبنا البريء مزارا للربيع و مرتعا للفراش ، يا حبيبتي لا أحد غيري يصدق هواك فحبك أكبر من الروايات والأقاصيص " قالت : " لم أبق تلك الطفلة التي عشقتها فقد وضع شيخ القبيلة أول وشم على زندي دليل بلوغي ومن دونك جرحي كان كبيرا وأفراحي هاربة مني كصبح أصابه وجع الصقيع كفراش حن لأرجل العنكبوت، على مشارف اللارجوع تغيب الشمس عن الوجوه الموشومة مثلي بالجرح العفن ، أما أنت فلن أغيب عنك مهما آنستك حقائب السفر ومهما طال انتظار آخر ما يجيء إلي نبيا للقلب ، هل يمكن أن نكون فعلافي حجم هذا الحب الكبير الذي صنعنا منه موطنا لن نبرحه أبدا ، أرهقني الوقت كثيرا وقلة الحظ ومصائرنا التي يحركها الأكبر دوما ، أرهقني عمري المبحر بلا رحمة في كل الأشياء التي لا تقنعني ، معك أشعر بلذة الوجود ، يعتريني دوار قاتل كنورس صغير صارخ في ألم من حطم رغبة الفصول في أنوثتي ، من أتعب صدور ألف طفلة موشومة بالوهم مثلي ، لو تعلم كيف تستوطنني الغربة ووحشة الأعماق ، يساورني قلق البحث عن قلب يسمعني نبضي في هذا الزمن الأجدب دون زيف الأزقة دون الكثير من العناء ، لو تعلم كم ترجيتهم بعدما سئمت حكاياتهم عن حب موجوع النهاية .. ترجيتهم أن لا يسمعوني أساطير الخوف وقتل العشاق صلبا إذا ما فضحت الأعراف لقاءاتهم واكتشفت القبيلة أن شيئا تحركه العيون العاشقة و الأيادي المرتعشة والقلوب الخافقة ، ترجيتهم أن يخلصوني من ألم السيوف الصدئة المغروسة بقلبي فحبنا كأمنية طير مقصوص الجناح ." نظرت إليه طويلا و انتصبت واقفة وأزاحت اللحاف عن رأسها ورفعت مشابكها الفضية من على كتفيها فسقط اللحاف الأسود أرضا ، ظهرت مواطن الأنوثة والفتنة فيها وظهر الوشم على زندها ، داعب شعرها وهو لا يزال يخاف عليها حتى من نفسه وقال : " امنحيني من حقول الشوق وردا فقد جاوز شوقي حدوده فلا منطق و لا عقل أمام القلب وليس للموت مكان بين انتفاضات القلوب ، صوتك الذي انبرى تحت جلدي ونزف الدم يغسل ويطهر جرح قلبي من قذارات الزمن فكلمة منك تطفئ لهيب نداءات الجسد، لم أسمع سوى نداءك وحدك فهو كالرحيق فلا حياة إلا بعيونك ، فصرخت : " إنني الأقوى بعشقك انك جذوري وغصوني وأناشيدي وشجوني ، فقد تجاوزنا حدود البداية ولم أرسم في يوم لحبنا حدود النهاية وأصبحت المتيمة بحبك " ، ثم قالت : " ارحل قبل عودة شيخ القبيلة وعد في موسم تروى فيه حكاية غير حكايتنا..
مرت السنون وطال الغياب، فتزوجت الحبيبة من ابن الشيخ القبيلة العاشق الولهان .. وتنقضي سنوات أخرى ويموت العاشق الولهان ويبقى شيخ القبيلة .. تغيرت القبيلة و شيخ القبيلة وصار كل شيء مباح !! يعود المسافر .. شيء غامض يحد بينهما ، دخلت بيته ، وقفت أمام المدفأة ، أراد أن ينشر في الجو البارد بعض الدفء و الدعابة ، قال وهو يراقبها : "اجلسي لا تخافي الأرائك عندنا ترحب بالضيوف " كان مبتهجا مثل صبي مرهف الحس ، وجودها معه أصبح مفاجأة ، صارت طفلة وصار محظوظا مثل أمراء الحكايات الذين يحصلون على أجمل الأميرات ببساطة في آخر سطر من الحكاية ، قال وهو سعيد بها و بكلماتها وبحضورها و بشعرها الذي ما زال أسودا : " ما زلت امرأة تساوي الكلمة السحرية وفتاة تسخرين من كل الموضات ، جميلة بدون تشكيل وبدون عصبية ، امرأة تشبهين الطبيعة " مد يده إليها كطفل ، نسي أن أناملها صارت حساسة جدا فلقد سرت فيها من جديد دماء العشق .. بعد هجر لسنين طويلة .. مدت يدها هي الأخرى فتكهربت مثل أول لحظة أحست قيها أنها تحب.. صارا مسكونين بصبغة قلب جديد.. بلمسة عيش مبتكرة .. مدت يدها ولم تمانع ، احتضنها ، قبلها ، قاما معا وخرجا إلى الصغير البستان قاصدين كوخ الجدة ، فتح الباب لمحت في وجهه رغبة في أن يعانقها ، فعانقها وبكت دموع الشوق و الحنين وكلمته بكل حب و عتاب قائلة : " لقد أعدتني إلى أجمل أيامنا في هذا الكوخ المسجون بألف ذكرى للحب و الصبا ، دخلاه بهدوء و احترام كأنه شيخ كريم ، فتحت النوافذ فدخلت الأضواء و انعكست على أشيائهما .. ذهبت الأشياء الجميلة .. وذهب العمر .